“The Square” اﻹنسان يبحث عن القيمة

لعل من أبرز وأهم اﻷسئلة التي واجهت اﻹنسان المعاصر وأكثر تحديًا: ما الذي يمنح اﻷشياء قيمتها التي تُنسب لها؟ وهل فكرة القيمة هى بالضرورة صفة موضوعية موجودة بشكل آلي في أي شيء نراه؟ أم هى صفة ذاتية نسبغها من داخلنا على ما نراه قيمًا من وجهة نظرنا؟ وهذه اﻷسئلة لا يقتصر طرحها بالتأكيد على المنتجات الفنية واﻹبداعية التي تشكل محورًا لا يستهان به من أحداث الفيلم السويدي The Square، وإنما يمكن إسقاطها كذلك على مختلف المنجزات اﻹنسانية في شتى مناحيها: قيمة علاقاتنا اﻹنسانية، قيمة أفعالنا، قيمة أعمالنا.

يعمل كريستيان بطل الفيلم قيمًا ﻹحدى المتاحف الفنية البارزة في السويد والمتخصصة في الفن المعاصر، والوظيفة الرئيسية ﻷي متحف فني بالتأكيد هى الاحتفاء والحفاظ على الأعمال الفنية التي يرى من منظوره أنها تحمل قيمة فنية عالية تستدعي الحفاظ عليها، حتى لو كان المسئولون لا يدركون على وجه التحديد قيمة ما يحافظون عليه أصلًا، هذا إن كان يحمل قيمة من اﻷساس، أو أن تنحصر قيمته فقط في كونه شيئًا أجمع على تقديره من النقاد الفنيين أو لكونه متواجدًا داخل متحف فني فحسب.

يوصل المشهد الحواري الافتتاحي الذي يبدأ به الفيلم هذه المفارقة الغريبة على نحو شديد الوضوح لا يحتمل أية تأويلات ثانية، حيث تقوم الصحافية اﻷمريكية آن بسؤال القيم كريستيان حول مضمون إحدى المعارض الفنية التي يستضيفها المتحف، ويحمل مضمونًا مفرطًا في تعقيده وعنوانًا متحذلقًا، فيفشل القيم تمامًا في اﻹجابة على سؤالها، بل وفي فهم ما يدور حوله المعرض الذي يستضيفه من اﻷساس.

إذن، هذه المعادلة التي يضعها أمامنا المشهد (متحف فني+عدم وجود إدراك لمعنى ما يقدم داخل المتحف) تخلخل بشكل كامل وجذري نظرتنا لمختلف اﻷعمال الفنية التي يستضيفها هذا المتحف والتي يطالعنا بها الفيلم، وتجعلنا نراها وهى “مجردة من القيمة” المضفاة عليها من قبل القائمين على المتحف، ونتأكد بالتالي من مدى تفاهتها وإدعائها البين وعدم وجود ثمة شيء من الفن فيها.

يؤكد المخرج روبن أوستلاند على هشاشة كل عرض جديد يستضيفه المتحف دراميًا من خلال طرق الاستجابة لها والنهايات المؤلمة التي تحل بها على الصعيد الدرامي أو البصري بأكثر من تنويعة: معرض بالكامل عبارة عن كومات من التراب مع عبارة مضاءة بالنيون ينتهي به مكنوسًا على اﻷرض كاملًا، عرض يتكون من كراسي متراصة معرض للانهيار بين اللحظة واﻵخرى، عرض حي لرجل يتعامل كالقرد مع من حوله ينتهي بكارثة محققة، حتى عرض (المربع) الذي يضع عليه المتحف رهان كبير ويخطط من خلاله للتوجه لجمهور أوسع من الجمهور المعتاد يُهاجم إعلاميًا على خلفية إعلان ترويجي مسيء.

إذن فلنضيف إلى تلك المعادلة السابقة عنصر آخر وفاعل في عملية استقبال العمل الفني وهو الجمهور نفسه، من الواضح مع حلول عرض (المربع) أن هناك رغبة ملحة من القائمين على المتحف في توسيع نطاق الجمهور المستهدف كما نرى في بدايات الفيلم، لكن المشكلة الحقيقية تظهر حينما لا يدركون أصلًا من يستهدفون من الجمهور في الحقيقة، ولا يدركون أزمة انعزالهم في برج عاجي عن الجمهور المستهدف سوى متأخرًا، خاصة مع أزمة اﻹعلان الترويجي الذي اختير للمعرض.

ومن هنا تتضح تلك الفجوة الهائلة غير الملحوظة، وليس فقط على صعيد مخاطبة جمهور افتراضي من خلال عمل فني، وإنما من خلال مناحي حياتية شتى، مما يحول المتحف شيئًا فشيئًا في هذا السياق الدرامي إلى جزيرة منعزلة بالكامل عما يقع بخارجها، قد نرى ما يحدث خارجه لكننا لا نتوحد معه بالضرورة، لتنشأ على مدار الفيلم ثنائية بين العالمين (داخل المتحف/خارج المتحف) سرعان ما تتبلور تجلياتها دراميًا.

لذا فلا عجب أن تكون طفلة شريدة هى بطلة اﻹعلان الترويجي للعرض الذي يصب كل المشاكل على رأس كريستيان، وذلك من فرط التعرض للمشردين في الطرقات طوال اﻷحداث دون توحد كامل مع عالمهم البائس، ومن مسافة بعيدة جدًا لا تسمح بالتعاطف بقدر ما تقوم بتكوين انطباعات فائقة العمومية، مما يضرب الهدف الرئيسي من عرض (المربع) الذي من المفترض أن يكون مساحة آمنة مفترضة حتى يبزغ السؤال: آمنة بالنسبة لمن على وجه التحديد؟

كريستيان في حد ذاته ليس ببعيد إطلاقًا عن حالة الالتباس تلك سواء في حياته المهنية وحياته الشخصية، باحثًا وسط كل هذا عن قيمة ما يمكن التمسك بها حتى لو أدرك هذه القيمة بأثر رجعي أو لم يدركها مطلقًا وغفل عنها: موقفه من الولد الذي يفكر في الاعتذار الحقيقي له بسبب تعرضه للأذى من جراء إتهام غير مقصود بالسرقة، تفويت فرصة الدخول في علاقة مع إمراة مهتمة حقًا به دون إدعاء، محاولة أن يكون أبًا جيدًا لابنيته، وبالطبع محاولته تسيير اﻷمور على نحو طبيعي في العمل دون الاستقرار على وجهة معينة والسير اﻷبدي في طريق مفتوح كأنه بلا نهاية كمثل اﻹشارة البصرية للنفق في مختتم الفيلم.