Her… عن إنسانية الآلة.. وآلية الإنسان

المرسال الذي نسي أن يكتُب رسالته هو!

يتحدث بضمير المؤنث، يسرد خطاب غرامي تمهيدًا لإرساله، ينظر إلي صور وذكريات لأُناس أغراب عنه لا يجمعه معهم كادر واحد، يكتب إهداءات هنا ومعايدات هناك، إنها وظيفته، عمله الدائم الذي يمتهنه، إنه “ثيودرو” .. شخصية الفيلم الرئيسية، رجل أربعيني يعمل في مؤسسة تتواجد زمنيًا في المستقبل القريب، وطبيعة عمله هي كتابة العديد من الرسائل النصية لعملاء المؤسسة الذين لا يعرف عنهم سوى حالات ومناسبات اجتماعية يمرون بها ويقصدونه للتعبير عنها في زمن صارت فيه الحياة تقترب أكثر من الشكل الآلي الذكي، وبدوّره وبسبب وظيفته يجوب وسط حيوات مختلفة ويعبر عنها بدقةٍ تلقي استحسان من حوله، ولكن علاقته بعملائه تظل علاقة من الخارج، يفصلُها سياج البريد الإليكتروني والحاسوب، دون أدني تفاعل بشري بينهم، فهو يقوم بعمله علي نحو ميكانيكي وباحتراف..

صورة فيلمية تنقل حياة عصرية وثورة اتصالات وأنظمة ذكاء اصطناعي تُحيط بالإنسان في كل مكان، تساعده في حياته اليومية حتمًا، ولكن هل تُنسيه ماهيته؟ هل تُنسيه حاجته للتواصل مع غيره من البشر؟ هل يمكن ان تُلهمه وتكون خير مرشدًا له وخير دَّليل لطريق خلاّق و بداية جديدة؟.. أسئلة عديدة يطرحها الفيلم من خلال رحلة بطله “ثيودور”، نقلت لنا مشاعر متناقضة ومختلفة عبر لغة بصرية شديدة التعبير عن المضمون الفكري للفيلم.

مع مَشاهد الفيلم الأولى، عَرِفنا الكثير عن ” ثيودور”، عن وحدَتِه، فراغه، وشَبقه الجنسي، تلك الأشياء التي قد تكون نتيجة انفصاله عن زوجته منذ قرابة العام، فمازالت تراوده بإستمرار حالة تداعي مرئي ونوستالجيا حادة لأيامهم سويًا، تجعله دائمًا يؤجل الانتهاء من إمضاء أوراق انفصالهم، وتجعله غير متحمس لحسم هذا الأمر بشكل نهائي، ربما أنه لا يعرف بعد تأثير هذا الانفصال عليه، أو ربما يعرف ولكنه يتفادى المواجهة ويؤجل الاعتراف.

تتوالي أحداث الفيلم، وخلال “حدث مفجر” (كما يَطلِق عليه بعض مؤلفين كتب السيناريو)، نري “ثيودور” وقد قرر الاشتراك في نظام تشغيل اليكتروني صوتي، وظيفته التواصل مع مقتنيه، لتبادُل الأفكار، تنظيم الوقت، ترتيب المواعيد، تقديم النصائح، والمساعدة في كل مناحي الحياة، صديق دائم يُشاركه جميع أوقات يومه وحتى في فراشه قبل النوم، قرار الاشتراك في هذا النظام يُعد بمثابة البدء في خوض ما يُعرف دراميًا ب(رحلة البطل)، رحلة سيَعرِف “ثيودور” من خلالها ما لم يَعرِفه عن نفسه من قبل.

يبدأ “ثيودور” في التواصل مع نظام التشغيل الذي اشترك به متمثلًا في نظام صوتي نسائي جذاب، صاحبته تدعى “سامانثا”، قامت بأداء دورها الممثلة سكارليت جوهانسن وهو اختيار ناجح من”سبايك جونز” مُخرج الفيلم لما أهدته “سكارليت” لشخصية “سامانثا” من خزائن جاذبيتها الطاغية وأنوثتها المتوهجة، وباستخدام مُقتصد لأداة واحدة من أدوات الممثل وهي الصوت فقط، فما قدّمَته “سكارليت” من صوت ذات بحة مثيرة، ساعد علي تكوين صورة ذهنية لامرأة خلابة غير موجودة بالأساس، ولا تظهر طوال أحداث الفيلم و لا يصلنا منها غير صوتها الفاتن.

صار التواصل بين “ثيودور” الإنسان و”سامانثا” الآلية يزداد شيئا فشيئا من خلال بناء درامي مُتماسك أساسه مَشاهد ولقطات وضِعَت كل لقطة فيه بعناية لتُضيف خطوة جديدة في طريق التَقرّب بينهم، نعم لقد فتنته! جذبته بصوتها الحنون، باهتمامها المُفرط بتفاصيل حياته، شَغَلت هوّة نفسِه التي كانت تزداد عمقًا ويملؤها التخبط والضياع، وجودها آلي ولكنه حقيقي بالنسبة له، هو وحده من يريد أن يجعل وجودها حقيقي ويعطيه صِبغة بشرية، وكأنه في حاجة مُلحة إلي ذلك.

يَغرق “ثيودور” في حب نظامه الصوتي “سامانثا”، وأيضا هي، فنظامها المُبرمج بتطور وذكاء صناعي يجعلها تتفاعل معه جيدًا، ويجعل منها أم حنون، وزوجة مخلصة، وصديق وفيّ.

تتطور شخصية “ثيودور” تطورًا يتناسب مع حالة الاضطراب التي يعيشها، فلديه تخبط في مشاعره يجعله مترددًا حتى في علاقته الافتراضية مع الآلة، فنجده يقترب منها لتتعلق هي به وكأنها تحلّت بصفات بشرية، ولكن لأنه هو البشري الحقيقي في هذه العلاقة، سرعان ما يبتعد خطوة للوراء وينصرف عنها، لنشعر بإخلاص الآلة، وتقلّب الإنسان، وهو ما تؤكده أيضًا الحبكة الفرعية المتمثلة في صديقته المفضلة “ايمي” والتي تلعب دورها الممثلة إيمي آدمز، فوجود هذا الخط الفرعي في دراما الفيلم يأتي لهدف التأكيد علي ما يدور في الحبكة الرئيسية، فمن خلال مشهد تحكي فيه “ايمي” لصديقها المفضل “ثيودور” عن ظروف انفصالها عن حبيبها، بالرغم من علاقة دامت بينهما سنوات.

نَلحظ “ثيودور” آخر في قصتها، ونري قُدرة الإنسان في تحطيم القلوب وعدم تقديره للعلاقات وللارتباط والحب، فضلًا عن عدم اكتراثه أصلًا بقيمة أن يكون مُحبًا أو محبوبًا لدرجة أنه من الممكن أن يُنهي علاقة امتدت لسنوات بأسرع طريقة ولأتفه الأسباب، بل من الوارد أيضًا عدم بذل العناء لمعرفة السبب الحقيقي للخلاف، فقط يكفي قول “سأذهب لأنام ولا أريد أن أبقي متزوجًا بعد الآن” ليُصبح بعدها المرء حرًا، وبالتالي فنحن أمام تجلي لتقلّبات الإنسان العاطفية في أبهى صورة لها صيغت في بناء درامي محكم، وقورنت بالآلة المحبة المعطاءة التي تحتوي وتعطي دون مقابل .. ولكنها ستظل آلة، ستظل مجرد نظام مُبرمَج متطور بذكاء، ستظل دون مشاعر آدمية، وهذا ما يجعل “ثيودور” يَشُك في حقيقة مشاعره تجاهها، ويتأمل نفسه أحيانًا ويسأل إذا كان ما يمضي به هو شيء طبيعي أم لا ؟ وما يساعده علي هذا الشعور المضطرب ويؤجج من وهجه ويزيد حيرته هو مشهد لقاءه مع زوجته لإنهاء إجراءات الطلاق وهو بمثابة (نقطة المنتصف) في سيناريو الفيلم، وخلاله توصفه زوجته بأنه غير قادر علي تبادل مشاعر حقيقية مع من يعيش، ليظل في حالة الاضطراب والشك تجاه حبيبته الجديدة “سامانثا”، ولكن سرعان ما يعود ويجدد حبه لها مرة أخري في جزء من سيناريو الفيلم يسمي دراميًا ب(نقطة اللاعودة)، وهنا تتجلي حرفية المُخرج في قيادة أداء ممثل يعي جيدًا البعد النفسي للشخصية التي يجسدها، فيشعرانا بمدي تخبط وتعقيد شخصية “ثيودور” ولهذا التعقيد متعته ومذاقه كونه الشيء البشري الذي يُميز الإنسان ويجعله مختلفًا عن الآلة، فشئنا أم أبينا فإن التخبط والتعقيد لهي صفات بشرية خالصة حتي وإن كانت مُنهِكة و مرفوضة.

يستمر “ثيودور” علي حالة حبه لنظامه الصوتي ” سامانثا”، وتستمر “سامانثا” في مبادلته نفس المشاعر، وتقوم بعملها المنوط بها علي أكمل وجه وأدق نظام، ومع وصول الأحداث لمنطقة (الذروة) وهي مَشاهد الصدمة بالنسبة “لثيودور” يستيقظ يومًا ليجد أن عطلًا ما في شبكة الاتصالات يَحوُل دون التواصل بينه وبين “سامانثا” كان ذلك بمثابة صفعة عنيفة له تؤكد علي آلية حبيبته، حينها أيقن أن حبيبته الافتراضية هي في نهاية الأمر مجرد آلة، مجرد نظام مُبرمَج من الممكن أن يُبادل آلاف المشتركين غيره نفس الاهتمام، والمشاعر والكلمات، مجرد جهاز وآلة سوف تذهب يومًا دون رجعة بالتأكيد نتيجة لتحديثٍ لنظامها أو تطوير لخواصها.

أيقن “ثيودور” أن رحلته هذه كانت رحلة وجدانية معنوية أكثر منها مادية، رحلة تركت بداخله شيئًا، وهنا فقط عند نقطة (حل الصراع) تَعرّف “ثيودور” علي نفسه كما لم يعرِفها من قبل، لتأتي النهاية الشاعرية للفيلم بمشهد سرد “ثيودور” لرسالة لم يعتزم يومًا إرسالها، رسالة لزوجته وحبيبته التي انفصل عنها، رسالة تكشف عن نظرة مختلفة لحياته الماضية، وتُنبأ عن تغيير طرأ علي جانبه الإنساني سيغدو مؤثرا في حياته القادمة، معاني أكدها المخرج باختيار مكان وزمان لمَشهد النهاية جعله مشهد شاعري، فمن فوق أسطح احدي البنايات وبلقطة بعيدة يجلس “ثيودور” و صديقته المفضلة حيث انتظار شروق شمس يأتي من عمق الصورة ليُعلن عن بدء يوم جديد وما يحمله هذا اليوم معه من معاني و رموز تتمثل في ضوء ساطع مُنتظَر يلوح في الأفق، مشهد يوظِّف العناصر البصرية بمهارة لإيصال المضمون الفكري.

ولعل أهم ما عَرَفهُ “ثيودور” خلال رحلته هو الفرق بين ما يريده وبين ما يحتاج إليه، بين ما يرغب به مجرد رغبة عابرة وبين ما ينقُصه فعليا، فربما كان في حاجة ليرى العالم بعين مختلفة وطازجة، أو أن تسمع أُذناه أصوات جديدة لم تسمعها من قبل، ربما كان يحتاج إلي نُزهة مُمتعة، أو رحلة صيد، أو كانت تشتاق روّحه إلي رحلة بعيدة يجوبُ فيها أماكن لم تطأها قدماه بعد، ربما كان في حاجة لمتابعة غروب شمس علي أحد الشواطئ، أو مقابلة أُناس وبشر آخرين خارج دائرة معارفه الجافة يحكي لهم إلى أي مدى كان يُحب زوجته وكيف أن عشرتهم كانت تمتد لسنوات، أو ربما كان في حاجة إلى خوض تجارب جديدة لم يجرأ يومًا أن يخوضها، ربما كان يَنتَظر أن يَستَقبل كلمات حُب دافئة صيغت في رسالة نصية علي نهج الرسائل التي يكتبها لعملائه، أو ربما كان كل ما يَنقُصه هو مجرد سماع قطعة موسيقية لم تُعزف له من قبل، يتأمل خلالها كيف كانت تمضي حياته ..

وَمَا فِي الأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ

وَإِنْ وَجَدَ الهَوَى حُلْوَ المَذَاقِ

تراهُ باكيًا في كلِّ وقتٍ

مخافة َ فرقة ٍ أوْ لاشتياقِ

فيبكي إنْ نأى شوقاً إليهمْ

ويبكي إنْ دنوا خوفَ الفراقِ

ابن دريد

فيلم : Her

النوع : دراما، رومانسي، خيال علمي

سنة الإنتاج : 2013

تأليف وإخراج : سبايك جونز

بطولة : هواكين فينيكس، سكارليت جوهانسون، ايمي ادامز

الفيلم حاصل علي عدة جوائز عالمية منها جائزة “الأوسكار” لأفضل سيناريو عام 2014 و جائزة “جولدن جلوبز” لأفضل فيلم في نفس العام