“Free Fire” أفكارٌ من خارج الصندوق

عندما تتأمل أفلام (المكان الواحد)، تجد معظمها ربما ينطوي على سياق قصصي وحبكة درامية واحدة، بدأت عند النيويوركي سيدني لوميت بالفيلم الأشهر في هذا الصنف (12 Angry Men)، وبعدها بعامان عند صلاح أبو سيف في (بين السما والأرض)، هي كلها أفلامٌ قد تبدو قصصها تقليدية للغاية على الورق (لا تخرج عادةً عن مجموعة من مختلفي الشخصيات والميول يقعون في ورطة واحدة، وتتكشف دواخلهم وأعماقهم رويداً رويداً وصولاً لحل العقدة)، لذا فهي تستلزم في كل مرة إضافة حقيقية ومعالجة مختلفة كي لا تقع من فخ التكرار والنمطيّة، تلك التيمة هي من أصعب التيمات بتقديم الجديد فيها لأنها مفروضة عليها (القصة) أولًا -بحكم ضيق المكان والأفكار- قبل أن تكون ذات لغةٌ أو تكنيكٌ إخراجيٌ ما ورائها.. فبالتأكيد أول سؤالٍ سيتبادر على ذهن المُشاهد إذا ما سمع بفيلمٌ جديد من هذا النوع سيكون: ما الجديد الممكن تقديمه هنا؟

المخرج البريطاني (بين ويتلي) قدم هذا العام واحدٌ من أكثر أفلام هذا النوع طزاجة وأصالة في عملٌ سينمائيٌ لم يُردد إسمه كثيرًا على لسان الجماهير يدعى (Free Fir)، يجرِّده ويتلي من كل الكليشيهيات التي لحقت بالصنف، ويضع لها معالجةً غير تقليدية تعيد تذكيرنا بالأفلام الرائدة لهذا النوع، بها ما هو مدهش وممتع ومسلي في آنٍ، وما هو عبقريّ على صعيد الحكاية وطريقة تطورها وحَبك خطوطها النهائية في آنٍ آخر، ويستخدم في ذلك أسلوبًا لا يخطئنا مدى قُرابته من الفذّ (تارانتينو) حيث اللغة البذيئة الساخرة، والكوميديا المشهدية السوداء، وقليلٌ من العبث والجنون هنا وهناك، لدرجة قد يصفها البعض أن (Free Fire) هو المشهد العبثي الختامي لـ(Reservoir Dogs) لكنه ممتد في ساعة ونصف!.

فكرة الفيلم -التي تستدعي وحدها قليلٌ من التأمُّل- تحكي عن مستودع قديم تتم به صفقة أسلحة بين فريقين، وتفشل الصفقة لأحد الأسباب التي لا أريد حرقها، وتُحوِّل الأمر معها من مشاجرة لفظية وجسدية، إلى حرب بالرشاشات الآلية والقنابل والمسدسات الكلاسيكية السبعينية، كل هذا عاديٌ ومتوقع، الآن هناك فريقٌ ثالثٌ من قناصان يتدخلان للحصول على الغنيمة ويجعلان كلا الفريقين يعتقدان أنهما مع الآخر.. تتحول بعدها المعركة ثلاثية الأبعاد إلى مطحنة حرفية يغلبها الحس الكوميدي/الغير واقعي، لا يعلم بها أحداً أيُّ فريق هو بجانب وأيُّه هو ضد، أو كما تقول أسطر ملخص الفيلم: (الجميع يضرب في بعضه بعضًا)!، ووسط كل هذا توجد حقيبة سوداء مليئة بالنقود على الأرض تنتظر المحظوظ الذي سيظفر بها بالنهاية.

لعل المدهش الحقيقي في هذا العمل هو تعددية أبعاده وثيماته للدرجة التي قد تجعلك تنظر للفيلم من إعلانه الدعائي أنه مجرد فيلم (بوب كورن) جيد، لكن مع الدقائق الأولى للعمل يتضح أن به (فكرة) أبعد ما تكون عن الأجواء التقليدية تلك، هو فيلم أكشن/حركي بدرجة أولى، وفيلم (قصة) بمعالجة جديدة -وموفقة جدًا- لأحد أصعب التيمات تقديمًا برأيي (وإن كان ليس عظيمًا في هذا الصدد وتحكمه الروعة البديهية للفكرة أكثر منها القوة القصصية لنص العمل)، إضافةً لكونه وجبة كوميدية مؤثرة، قوية، ومن الطراز الرفيع (لم أحظى بتجربة فيلمية ضحكت فيها من حنجرتي بهذا الشكل منذ زمن طويل.. الأمر وصل للهيستيرية المطلقة في أكثر من مشهد حتى!)، كل هذا وهو خارج بالأصل عن قالب فيلمٌ مستقلٌ بريطاني الإنتاج، هذا فيلمٌ من المفترض أن يرضي العديد من الأذواق والميول، ربما أولهم أولئك الذين ينظرون إلى الحد الأدنى مما يشمله فن السينما: الإستمتاع والترفيه ولا شئٌ غير ذلك.

في المعالجة الجديدة لأفلام المكان الواحد نجد عاملان أساسيان يحكمان حكايتنا ويعطيانها التفرُّد: أولاً هو كون هذا الـ(مكان الواحد) مخزنٌ واسعٌ بطوله وعرضه، لا مكانًا صغيرًا أو ضيقًا كما هو معتاد، وثانيًا الموقف الحاصل أو العقدة الدرامية التي تجمع شخوص الحدث هي (مُفارقة الموت)، وهو موقفٌ شديد الذكاء لنوعية فيلم كهذا، حيث الجميع يمكن أن يلقى حتفه برصاصة طائشة في أي وقت، والجميع -في ذات الوقت- يريد أن ينجو من تلك المعمعة الكابوسية، نقطة غنية جدًا لكشف -كما هو معتادٌ ومفروضٌ- دواخل وجوّانيات والأبعاد النفسية لكل شخصية من شخصيات فيلمنا.. الإثارة الحقيقية تبدأ عندما تدخل (الإيدلوجيات) في واجهة اللعبة لنتعرف على مَن سيأخد الأمور بشكل (شخصي) ومن سيعتبرها أحد إعتياديات أمور (العمل) لتتضح حقائقهم، طبقاتهم الإجتماعية، وأنماط عيشهم، وفي تلك اللحظة المصيرية الواحدة يظهر كل ما هو مدفونٌ تحت السطح: من منهم الجشع.. من منهم الصُلب الذي -ربما- سيقوم بعملٌ بطوليٌ ما.. من الأحمق الغبي.. من سيتصرف بعقلانية ويرغب بالخروج بأقل الأضرار.. ومن سيغدو متهوّراً يستمتع بالتجربة المجنونة الحاصلة غير مهتم كثيرًا بنتائجها.

لكن المدهش حقًا في حبكة العمل أنها تعتمد على شئٍ قد يعتبره الكثيرون (أمر تافه) هي من تقلب الأمور رأسًا على عقب، مثلاً هناك الكثير من المواقف الحياتية اليومية التي لن تقف وتتفحص كلٌّ منها، بل -بطبيعة الحال- ستجعلها تمر مرور الكرام دون تمعُّن أو حتى دون إهتمام من الأصل، حبكة العمل تعتمد على أمراً كهذا، المبالغة وسيناريو (لماذا كل هذا؟) حاضرٌ هنا بقوة، وهذا يعود بالأساس للحس العبثي/الكوميدي التي تُسرد بها القصة، الأمور هنا ليست جدية على الإطلاق، لكنها ومع ذلك لا تتحول لأحد القصص السطحية المبتذلة، بل هناك نوعٌ من (إحترام الحكاية) الذي يُبقي الترقب حاضر لما ستؤول إليه خاتمة الحدث، ربما حالة المبالغة تلك وثنائية (الموقف الواحد/ردود الأفعال المتباينة) تشابه في فكرتها العامة حالة فيلم دايفيد فينشر (Se7en): حيث شخصان تلقوا ذات المعاناة الحياتية بذات المقدار، لكن الأمر جعل أحدهم يجاري الموضوع، يتحمّل، ويكمل حياته، وجعل الآخر يرفض، يتمرد، ويصبح سفاحًا قاتلًا.. هذا أحد السيناريوهات التي تضرب في (المواقف الحياتية المُتخيَّلة)، تجعلك تستشعر بها الكثير من الدراما والسينما.

أيضًا هذا من الأفلام القليلة التي يمكن أن تلتمس بها أهمية عنصر (المونتاج) في فنيات وألاعيب السينما، الإيقاع هنا سريعٌ للغاية بالتأكيد خصوصًا في فترات ضرب النيران، لكن ما أدهشني حقًا هو تركيبة التتابعات وطريقة تجميعها في سياق القصة، حيث نرى موقفاً واحداً من منظور، وبسرعة نرى رد الفعل، وبسرعة ننتقل لمنظورٍ آخر، ومن ثمَّ نسمع صوت أحد الطلقات، ونرجع مجدداً لأحد الأشخاص، ثم أحد أفراد الجبهة المقابلة، وهكذا أجواءٌ مشحونة لا تهدأ وكاميرا مُنتبهة يقظة طوال مدة الفيلم.

المونتاج هنا رائعٌ جدًا وهو كينونة وأصل العمل، بحيث لا مجال لقصره ووصفه بأنه (أحد) أعمدة الفيلم، بل هو الفيلم ذاته !، ربما كل أفلام الأكشن والحركة تملك تلك الخاصية من إمكانية وجود تميُّز مونتاجيّ ما بها بسبب طرق تناول قصصها بشكلٍ فني وغير واقعي، وهي تضرب بذلك في صميم (السينما) كفن للإيهام والخداع بالأساس، أتذكر مثلًا تعجبي الشديد بحصول فيلم مثل (The Bourne Ultimatum) على معظم جوائز المونتاج بعام صدوره قبل عشر سنينٍ من الآن بما فيها ثلاثية الأوسكار لـ(المونتاج، المونتاج الصوتي والمكساج الصوتي)، برغم كونه فيلمًا حركيًا وتجاريًا بالأساس.

عادةً ما يركز هذا الصنف بالمجمل على فنيات اللعبة والمؤثرات البصرية والصوتية أكثر من -وليس على حساب- نصوص تلك الأفلام، تأمل فيلمًا مثل (Duel) مثلاً لستيفن سبيلبرج: المونتاج وحركة الكاميرا هما كل شئ.. في فيلمنا هذا هناك جرعة مقبولة من ألاعيب المكساج الصوتي، تجدها في الأصوات المختلفة للرشاشات والبنادق النارية، والأشياء التي تتحطم في كل مكان بالمستودع الذي تشبه حالة كونك في أحد أفلام الفيديو جيم الحربية، الأمر الذي دفع فضولي لمُشاهدة بعضاً من المقاطع الحوارية للمخرج البريطاني الذي صرح في أحداها بأنه إستلهم فكرة الفيلم من تلك الألعاب الإلكترونية النارية التي تشغل هاجسٌ ما عنده، خصوصاً لعبة شهيرة في هذا الصدد تدعى (Counter Strike).

ربما من المبكر الحديث عن أفضل أفلام العام، البعض يفضل الإعتقاد أنه لم يشاهد الأفضل في العام بعد، شخصيًا لا أجد حرجًا من وضع إسم هذا الفيلم كأحد الأفلام المستقلة المميزة التي أثبتت نفسها، وحفرت إسمها في قائمتي لأفضل أفلام السنة، ربما تتشابه حالة هذا العمل من حيث (الفكرة الجديدة والغير تقليدية بفيلمٌ مستقلٌ جيد) مع حالة (Swiss Army Man) بالعام الماضي، شخصيًا لا أستطيع منع نفسي من إيجاد العديد من المُشتركات بينهم.

هذا عملٌ مختلفٌ وأفكاره قادمة من (خارج الصندوق) كما يُقال، يناصف أفلام (المكان الواحد) القوية من عيار (Locke) و(Phone Booth) و(The Breakfast Clu).. وواحدٌ من مفضلاتي للعام التي حتمًا سيكون ضمن العشرة أو العشرون فيلمًا التي أحب أن أتذكر (2017) بهم.