عودة للأفلام القصيرة في “أيّام القاهرة”.. بين تجريب مُدّعى وآخَر واسع المدارك


مشهد من فيلم (في المستقبل أكلوا من أفخر أنواع البورسلين)

استمرارًا لعروض محور اﻷفلام القصيرة ضمن فعاليات أيام القاهرة السينمائية، عُرضت المجموعة الثانية من الأفلام القصيرة التي بلغت هي اﻵخرى 6 أفلام تنوعت هذه المرة بين الوثائقي والتجريبي والرسومي والروائي، خاصة بعد اقتصار عروض المجموعة اﻷولى على أفلام روائية فقط، واشتملت المجموعة الثانية على أفلام:
ردهة، تسكع بالمينا، في المستقبل أكلوا من أفخر أنواع البورسلين، عزيزي الحيوان، الولد والبحر، واﻵن: نهاية الموسم”.

“ردهة”: خارج حدود الرؤية

في عام 1993، أقدم المخرج البريطاني ديريك جيرمان على تجربة سينمائية فائقة الغرابة من خلال فيلمه “Blue” تلخصت في الاستغناء الكامل عن عنصر الصورة واستبداله بشاشة زرقاء لا تتبدل طوال مدة عرض الفيلم، مع الاعتماد بشكل كلي على شريط الصوت ليقوم بالمهمة كاملة باستخدام الموسيقى التصويرية وأصوات الممثلين وأصوات الطبيعة، لكن حتى مع عدم تقليدية الفكرة، فلا زالت تحمل الكثير من الفذلكة، ﻷن السينما ببساطة ليست مكانها، لماذا لم يقدمها كعمل إذاعي إذا كان الهدف هو العمل على مخيلة المشاهد.

نفس التجربة يكررها ثانية المخرج اسماعيل بحري من خلال وضع ورقة أمام عدسة الكاميرا طول مدة العرض بحيث لا نرى شيئًا سوى أضواء تتراقص وراء العدسة المخفية وسماع أصوات من يحاورهم المخرج، ونكرر هنا السؤال مرة أخرى: ما قيمة هذا التجريب الذي يقدمه بالضبط هذا الفيلم بعد الاستغناء عن العنصر البصري تمامًا حتى ولو من باب إعادة استكشاف الوسيط؟

“تسكّع بالمينا”: وماذا بعد التسكع؟

إن مجرد الانتقال من صناعة أعمال تنتمي لفنون الفيديو Video Art للسينما مباشرة لا يعني بالضرورة أن صانعها قد نال ببساطة صك “صانع أفلام”، خاصة حين يحاول تحميل تجربته السينمائية عنوة بمفردات الـVideo Art.

في تجربة كندة حسن القصيرة تلك، لا تكتفي بالاتكال على نحو مفرط، على مفردات فن الفيديو بصريًا، وإنما تتجاوزها كذلك قفزًا من موضوع ﻵخر دون قدرة على ربط كل هذه العوامل لتصل بها إلى نتيجة ملموسة، شيء يشبه ما فعله الكاتب اﻷيرلندي فرانسيس مكاي في كتابه “كيف تعرف ما الذي يجري حقًا؟”.

“في المستقبل أكلوا من أفخر أنواع البورسلين”: سؤال وجواب

ربما يكون هذا الفيلم من أفضل التجارب السينمائية التي عرضت ضمن محور اﻷفلام القصيرة على أكثر من صعيد، ففي البداية يختار أن يسرد حكايته اللاخطية من منظور الخيال العلمي مع مزجه بإحالات ثقافية وقومية واضحة، وهو نوع سينمائي غير مطروق على اﻹطلاق، والمسألة لا تقتصر على اﻹمكانيات اللازمة لتقديمه، وإنما النظرة الاستعلائية التي تواجهه من غالبية صناع اﻷفلام في العالم العربي.

وحتى مع البساطة الظاهرية القائمة على الركون على بناءه بطريقة السؤال والجواب بين بطلتي الفيلم، إلا أنه يتلاعب على نحو كبير مع هذا ببعدي الخيال/الواقع لدرجة يصعب معها التمييز بين كلاهما ويبعث أكثر على الاهتمام بالمتابعة، شيء يشبه ما فعله الكاتب اﻹيراني صادق هدايت في عمله الروائي اﻷشهر “البومة العمياء”.

كما يتميز الفيلم في تنفيذه البصري مع كثرة المشاهد التي تحتوي على خلفيات بصرية وتناغمها الكبير مع المدخلات التقنية، باﻹضافة إلى التأثر الواضح اﻵتي في محله في عدة مشاهد بفيلم “Under The Skin“.

“عزيزي الحيوان”: حكايتان عن التحول

تجربة سينمائية آخرى مثيرة للاهتمام تقدمها مها مأمون، تقدم من خلالها حكايتان منفصلتان دراميًا وجغرافيًا عن بعضهما البعض، لكنهما في الوقت ذاته ترتبطان معًا بفكرة التحول والانمساخ من هيئة بشرية إلى آخرى غير بشرية، مقدمة إياها في تجليان مختلفان.

في التجلّي اﻷول، يأتي هذا التحول في هيئة مجازية تعبر عن التصالح مع الحياة الجديدة والكينونة الجديدة بوحي مستمد من فكرة تناسخ الأرواح خاصة بعد الخروج من أسر مكان لطالما ضاق بهذه الكينونة الجديدة إلى رحاب مكان جديد يرحب بها، وهو ما نجده في الحكاية الأولى الخاصة بالرسائل التي تبعثها عزة شعبان عن رحلتها في ربوع الهند تحت إمضاء الدرفيل، حيث توجه كل رسائلها لرفيقها في المملكة الحيوانية.

أما في التجلّي الثاني، فيأتي هذا التحول حقيقيًا وقاسيًا للغاية وحاملًا في طياته للكثير من الكوميديا السوداء، ومن أسفل درجات المجتمع، مانحًا للحكاية كل كابوسية وملامح التحول الكافكاوي- نسبة إلى فرانز كافكا- حين يتحول تاجر مخدرات إلى تيس مخطط يرغب في الطيران، ويصير مسلوب اﻹرادة أمام الجميع بمن فيهم شركائه، ناهيك عن كون البيئة نفسها تتعامل مع الحيوان بكافة صنوف القسوة، مثلما نشاهد في اللقطة التي يبرزها الفيلم لعظام جمل ميت ومعلق فوق الرصيف ومحاط باﻷضواء.

“الولد والبحر”: ما قل ودل

على الرغم من استفادة الفيلم كثيرًا من مفردات اﻷزمة السورية، إلا إنك كمشاهد لن تشعر بهذا اﻷثر المباشر كثيرًا ﻷن صانع هذا الفيلم الرسومي قرر أن يجعل فيلمه على درجة عالية من التجريد والانفتاح بما لا يجعل محصورًا في هذه المنطقة، ويجعله فيلمًا مفتوحًا أمام العديد من الرؤى على المستوى البصري والسردي.

“اﻵن نهاية الموسم”: التوثيق اللاسردي مجددًا

حينما بزغت فكرة الفيلم الوثائقي اللاسردي “Non-narrative Documentary” منذ سنوات طويلة في السينما، كانت بمثابة فكرة طليعية نجحت في العديد من التجارب في استقراء المجرد والجمالي من حولنا، مثلما رأينا مثلًا في أفلام رون فريك أو جودفري ريجو، وهذا الفيلم لا يخرج عن هذا اﻹطار كثيرًا في مراقبته لجموع اللاجئين السوريين في الشوارع التركية، لكن ما مدى أهمية هذا المنتج البصري الذي يقدمه الفيلم بمحاولة إجراء اتصال هاتفي بين جيمي كارتر وحافظ اﻷسد؟