“أوسلو في ال31 من أغسطس” .. المدينة بنظرةٍ خريفيةٍ قاتمة.

لم يعد يربطني بهذه المدينة سوى بعض ذكريات الطفولة، ذكريات حُفِرَت في كلِ ركنٍ فيها، الهث ورائها هربًا من واقعي القاتم، نعم لقد نشأت هنا، وفي هذا المكان هناك لَعِبت أول مباراة، وعلي هذا الشاطئ تسلل داخلي هواء البحر واستنشقت رائحة ملحِه، أما هذا الركن الهادئ فنعمت فيه بقصة عشق ملتهب ولكن، .. لأن الليلة لا تُشبه البارحة، ولأن عجلة الأيام قد دهستنني دون قصد، فإن المدينة لم تعد كسابقها، لا تبتسم لي الآن أبدا، لا تراني، بل تُريني وجها باردًا غير مبالي، أصبحت غريبًا عنها وعن شوارعها ومقاهيها وحاناتها، أمسيت معزولًا عن سكانها وأحاديثهم، لا أتحمس لسماع ما يقولون، وأظن أنهم يبادلونني نفس الشعور أيضًا، لا يرغبون في بقائي، صرتُ منبوذًا حتى من أقربهم لي، قسَمات وجوههم تُعلِنُها صراحةً، وكل إيماءة مستترة تكشف عن ما تُبطنه نفوسهم نحوي، وليس أمامي سوى التماس أعذارًا لهم كي أحافظ علي ما كُسر بداخلي حتى لا يُكسَر أكثر ويغدو فتاتًا ..

ستَشعُر حتمًا بهذه الكلمات السابقة التي لا تقال في الفيلم ولكنها ستصلك بمجرد رؤية حال شخصية الفيلم الرئيسية “أندريه”، فمع بداية المَشاهد الأولى وعن طريق استخدام درجات سُلم لوني قاتم بين الأزرق والرمادي يُعلنها المخرج ومدير التصوير صراحة أنهم بصدد دعوتنا علي رحلة بصرية تُعبِّر عن مشاعر قاتمة وكئيبة، ولسببٍ ما ستجد نَفسك كمُشاهد (وإن كنت أكثر الناس تفاؤلًا) تنجذب وتريد أن تعرف المزيد عن هذه الحالة وهذا العالَم المائل للشجن، فأجواء الفيلم الساحرة ذات الغموض الجاذب شُكلت بألوان باردة، سماء غائمة، بطل بُعده النفسي مُهَشَّم، وإطارات (كادرات) كلها تحبس البطل، تَخنق أفقه، تضعه في مناطق ظلال، وتُعبِّر عن مُحيطه المقيد غير الحر، تُنيرُها إضاءة خافتة “Low Key Lighting” أقرب إلى العتمة، طبيعة بصرية بدأت مع بداية السرد الدرامي لشخصية “أندريه” ذلك الشاب الثلاثيني الذي يُقدِم علي محاولة انتحار فاشلة، نعرف أسبابها رويدًا مع تقدم السرد، ف”اندريه” المُلتحِق ببرنامج علاجي للتعافي من إدمان المخدرات بإحدى المصحات الكائنة في منطقة نائية عن العاصمة النرويجية “أوسلو”، أوشك علاجه على الانتهاء، ولذلك يُسمح له بقضاء يوم في العاصمة، خاصة أن لديه موعد مقابلة شخصية لوظيفة بإحدى المؤسسات الصحفية لنَعرِف أن قبل رحلة إدمانه كان “اندريه” يعمل كاتبًا.

اختار المخرج النرويجي “جواكيم تريير” حبكة فيلمية مختزلة تُعرف “بحبكة اليوم الواحد”، وهي طريقة بسيطة للسرد الدرامي تعتمد على التعايش مع الشخصية الرئيسية ونقل أحداث يوم كامل في حياتها (وهو ما يجعلنا نتطرق لفكرة الزمن الدرامي ومعناها، فالزمن الدرامي هو زمن الأحداث التي يحكيها الفيلم ويتم صياغتها عن طريق اختزالها / مدِّها في الزمن الفيلمي الذي هو زمن عرض الفيلم) وبالتالي فإن الزمن الدرامي هنا هو أربع وعشرون ساعة يتم سردها في الزمن الفيلمي وهو ساعتين، والخط السردي البنائي للفيلم يتكوّن من محطات ومقابلات يقوم بها البطل خلال أحداث يومه، ينمو معها صراع درامي بشكل موازي، ثم يُحل في أخر اليوم / الفيلم.

يصل أندريه” مدينة “اوسلو” ويذهب لمقابلة صديق قديم قبل ذهابه المقابلة الخاصة بالوظيفة، نَعرِف خلال لقائه بصديقه بعض المعلومات السردية التي تكشف النقاب عن أسباب مشهد الانتحار الافتتاحي وتُشكِل تلك المعلومات إرهاصات الصراع الدرامي للفيلم، فمَشاهد “أندريه” مع صديقه نَقَلتْ كيف يُفَكِّر “أندريه”، وكيف يرى العالم المحيط به، وكيف يري نفسه وما حالت إليه، لنعرف أن نظرته هي نظرة متشائمة، غير مكترثة بتحقيق أي انجاز، نظرة عدمية، ساخرة من كل ما حولها، نظرة ندم علي فرص ضائعة وتأكيد على استحالة البدء من جديد في أي شيء، ومع هذا فإن “أندريه” يذهب لإجراء مقابلة الوظيفة، بل ويتصل هاتفيًا بحبيبته السابقة رغبة منه في عودة العلاقة مرة أخرى، مما يشير إلى وجود ثمة نظرة تفاؤلية أيضًا، وبقايا رغبة في الحياة، وهنا يَكمُن الصراع الدرامي ويتحدد نوعه فهو صراع داخلي في نفس “أندريه”، صراع بين اليأس والأمل، بين الفرصة في النجاة و الاستسلام للضياع، فالبطل هنا هو نفسه الخصم، وبالرغم من أنه يرى أن رحلة إدمانه قد قضت علي فرص تحقيقه لأي خطوة للأمام وجعلت انزلاقه للهاوية أمرًا حتميًا، إلا أنه مازال يعي أن هناك أسباب حوله تجعله يعيش ويُقدِم علي الحياة، وهذا يعتبر نموذج للصراع الدرامي الناجح (فمنذ نشأة الدراما وفي التعريفات الأرسطية لها، نجد أن تحقيق دراما ناجحة يتطلب وجود صراع بين كيانيّن متكافئيّن في القوة متعارضيّن في الاتجاه) وهذا ما يحققه الفيلم خلال هذا الصراع النفسي المتوحش صراع الحياة ضد الموت.

فبالرغم من بدء الفيلم بمحاولة انتحار فاشلة، يظل البطل طوال أحداثه يحاول التشبث بفرص الحياة ليطرح السؤال الذي يُحافظ علي إبقاء المُشاهد متابعًا / منتظرًا / متسائلًا، أي الكفتين ستُرجَّح؟ من سينتصر؟ الهدم أم البناء؟ هل سيُكمل “أندريه” حياته أم سيستسلم وتراوده أفكار الانتحار من جديد؟

استَخدم المخرج “جواكيم تريير” لغة بصرية تُعبِر عناصرها عن ما يقبع داخل عقل ووجدان “أندريه”، فعلي سبيل المثال نري كيف استطاع “تريير” من خلال تكوينه البصري في مشهد المقهى أن يضع “اندريه” في نقطة من الكادر تسمي نقطة (اللا وضوح) “Out Of Focus” وفي خلفيته في (نقطة الوضوح) “In Focus” يجلس العائلات بأطفالهم في لقطة شديدة التعبير عن العزلة / الغربة / التوهان / واللانتماء للعالم المحيط به بعد رحلة مظلمة داخل نفق الإدمان، رحلة أدخلته في فجوة زمنية، خرج منها ليجد أمامه فجوة أخري إنسانية بينه وبين من حوله
تستمر هذه الفجوة طوال أحداث الفيلم/ اليوم بدءا من زيارته لصديقه ورفضه التام قبول أي نصائح تساعده واعتبارها نوع من شفقة لا يقبلها، مرورا بمقابلة الوظيفة التي تركها وأنهاها دون سبب واضح، ووصولًا إلى رفض شقيقته مقابلته وإرسال صديقتها بدلًا منها، كلها أحداث مر بها اندريه عمقت جراحه وأكدت هذه الفجوة الإنسانية وهذا الميل إلى عدم التواصل، ليترك نفسه بعد سلسلة الأحداث هذه لمهب الريح، ويتجلى ضعفه الإنساني ويطغى علي أي بارقة أمل لديه، ليُحَل الصراع الدرامي بانتصار الخصم علي البطل، (انتصار جانبه الضعيف الذي هو بمثابة خصمه) وتأخذه قدميه لا إراديًا إلي دهاليز التعاطي، ويتحكم فيه لاوعيه الفطري الذي يميل للهدم والتحطيم، ليبدأ في الانتكاس مرة أخرى، يسهر، يشرب، يعانق حياة الليل كما اعتاد سابقًا، ويظل حتى صباح اليوم التالي يوم “الحادي والثلاثين من أغسطس في اوسلو” اليوم الذي شرد فيه ذهنه عند ملامسة أول شعاع شمس لجبينه، ليستقر بداخله قرار يعد هو الأخير له.. يذهب إلى منزل عائلته الذي لم يدخله منذ فترة طويلة، يُلقي نظرة وداع لصور أسرته، يعزف لنفسه مقطوعة موسيقية أخيرة، ثم يذهب إلى غرفته دون عودة بعد حقن نفسه بجرعة مخدر زائدة أنهت حياته منتحرًا .. في مشهد تراجيدي لبطل يهوى بعد رحلة ضياع .. وكأن لسان حاله يقول ..
معذرة..لقد حاولت كثيرًا ولكن الفكرة كانت أكثر إلحاحًا من المحاولات، لم أجد نفسي ثانية سوى في عالمي الخاص ..القاع .. لطفًا أفسحوا لي المجال فقد أزعجتكم قليلًا .. واعتذر عن ذلك، والآن حان وقت رحيلي الأخير ..

الفيلم يحقق نوعًا من السرد الدائري ذلك لبدئه بمشهد انتحار وانتهائه بمشهد انتحار أيضًا بينهما محاولات للعيش لم تأتي بثمارها.

رُسمت شخصية “اندريه” بدقة، وزُرعت لها ذكريات وتاريخ درامي “Back History” جعلها تُشكَّل علي نحو صادق، وجعلك كمشاهد تتقبل كل قراراتها بمنطقية، وبالتأكيد ساعد في نقل شعورها بنجاح ممثل رائع هو “اندريه دينلسن” ، ولا أظن انه لم يخوض تجربة شبيهة في حياته الحقيقية أو انه عاصرها من خلال أشخاص قريبين منه ليقدمها بهذا القدر من المصداقية وعدم التكلف، شخصية زجاجية قابلة للكسر، شديدة الحساسية.

وأخيرًا يتركنا الفيلم ونحن لا نعرف ما إذا كانت أحداث يومه الأخير هذا هي ما قضت علي ما تبقى لديه من رغبة في البقاء، أم أن اختياره كان معد سلفًا واستسلامه كان جاهزًا .. وهل لا تستحق الحياة بذل العناء للتشبث بها ؟
فيلم عن الحياة وقيمتها.

“أوسلو في ال٣١ من أغسطس”
إنتاج عام : 2011
إخراج : جواكيم تريير
بطولة : اندريه دنيلسن
الفيلم فائز بعدة جوائز عالمية وتم ترشيحه لجائزة “نظرة ما” في مهرجان “كان” السينمائي عام 2011.