“Manchester by the Sea”.. التوحد مع معاناة البطل


Manchester by the Sea

هل اختبرت شعور أن يطعنك أحدهم ببطء، دونما توقف، وأنت مستسلم ومُتقبل في انتظار انتهائه، لترى ما مدى الأثر الذي أحدثته بك تلك الطعنة؟ تلك هي تجربة مشاهدة فيلم “مانشستر باي ذا سي Manchester by the Sea“. “مانشستر باي ذا سي” بعيدًا عن كونه اسم للفيلم إلا أنه اسم للمدينة الصغيرة، التي تدور بها أحداث الفيلم، والتي تقع بولاية “ماسيتشوسيتس” شرق الولايات المتحدة الأمريكية، تلك المدينة التي يتجاوز عدد سكانها الخمسة آلاف بقليل، وسميت بهذا الاسم حديثًا عام 1989 بعد أن كان اسمها “مانشستر”، وذلك لتشابه الاسم مع مدن أخرى.

في أجواء تشعرك بالبرودة طقسًا وأحداثًا وأشخاصًا، ما يُشعرك أثناء المشاهدة وإنك بصدد مشاهدة فيلم بريطاني لا أمريكي، ربما يعود ذلك لطبيعة كاتب ومخرج الفيلم كينيث لونرجان، الذي ينتمي والده الطبيب لأصول أيرلندية. ولكن ساعده بذلك طبيعة المدينة التي اختار تصوير الأحداث بها، والتي وفِق في اختيارها كونها تعكس طابع الفيلم غير الملتهب، حيث أن كل الالتهابات والحرائق تشتعل داخل أبطالنا على عكس ما يُريدونا أن نرى.

تدور أحداث الفيلم حول العم لي تشاندلر “كيسي أفلك“، الذي يترك مكان عمله البعيد ويعود لمدينته التي عاش بها أغلب حياته، ليحضر ويشرف على إجراءات دفن أخيه “جوي” الذي توفي بمرض في القلب، كان يعلم به الجميع، ما جعل أيامه معدودة وما جعل أيضًا موته أمرًا متوقعًا. يصطدم العم بابن أخيه “باتريك”، الذي يبلغ ستة عشر عامًا، وعليه أن يكون وصيًا عليه حسب رغبة شقيقه الراحل، وعلى عكس رغبته هو.

نرى جميع أحداث الفيلم من زاوية “لي” والذي نرافقه في رحلته ونحن بصدد اكتشاف ما الذي يؤرقه طوال تلك الرحلة. فما بين وقته الحالي والعودة للماضي، بطريقة التنقل بين الزمنين، نراه مختلفًا، نراه مهمومًا، عكس ما كان عليه سابقًا. لذا نقضي النصف الأول كاملًا من الفيلم، ونحن نتساءل ما الذي أصابه وألَم به، ورغم قدرة المشاهد على توقع ما حدث إلا أنه وإن صدق توقعه، فسيجد نفسه متورطًا بنفس المشاعر، وتلك هي ميزة السيناريو، الذي جعلك تتعاطف مع البطل دون أن يحكي ولا مرة عما حدث، ودونما أن نراه يبكي، إلا فيما ندر، ولا نرى وجهه حينها ويهرب بنا المخرج سريعًا، فالفيلم يحتفظ بكافة الانفعالات داخل وجدان أبطالنا، وعلينا نحن المشاهدون أن نعاينها ونعيشها داخلهم دونما مصارحة بها. وهو كان اختيارًا موفقًا من صانع العمل، لدفعنا لمشاركة الأبطال معانتهم وكأننا نحن من نمر بها، وكأننا نضع أنفسنا بدلًا عنهم، ونعاني ما عانوه، وسيدوم أثر ذلك مع المتفرج طويلًا، بعد الانتهاء من المشاهدة.

تظهر الثنائيات واضحة بهذا الفيلم، فكما تُظهر الشخصيات برودًا عكس ما تُضمره من تأجج، وكما تم تقسيم الفيلم إلى زمنين منفصلين، تم أيضًا فصل الفيلم إلى نصفين، أولهما نتساءل عما ألَم بالبطل، وثانيهما نُعاين أثر ذلك عليه في تعاطف وتلمس لخطواته بعد معرفتنا بالحدث الفاصل في حياته. كما نرى الأحداث مُقسمة بين أسرتين لأخوين من نفس العائلة وكل أسرة ولها معاناتها الخاصة والتي تجسدت في شخص من كل أسرة، ويظهر ذلك جليًا في أحد المشاهد، عندما يقف “باتريك” والذي يبدو متماسكًا على باب غرفة “لي”، وتشعر كمشاهد بأنها اللحظة المُناسبة لـ “لي” أن يحتضن ابن أخيه لينفجر في البكاء في أحضانه، ليُخفف عنه، إلا أن “لي” يتهرب من مثل تلك المواقف، لأنه يحمل معاناته الخاصة على عاتقه، ولأن حضن مثل ذلك قد يقضي عليه ويؤدي به إلى التفتت، الذي لا يتبعه تماسك، فينتهي المشهد بمحاولة “باتريك” فرض ذلك الحضن ويقابله “لي” بمجرد لمسة على كتف ابن أخيه.

إن أردنا أن نُلخص أجواء الفيلم، فأننا يُمكن أن نُصيغها في كلمتين “العنصر الغائب”، ففي مشهد البداية وفي عالم الزمن الماضي بالفيلم، نرى العم “لي” وابن أخيه الصغير “باتريك” يقفان على سطح مركب الأب “جوي”، والذي لا نراه سوى خيالًا يقود المركب، بينما العم وابن الأخ نراهما بوضوح، ويدور بينهما حوار يبرز حب الابن لأبيه، وتفضيله على عمه، وهو مشهد يلخص أغلب الأحداث فيما بعد بين الشخصيتين الرئيستين بالفيلم، واللذان لم يتحدثا بعد ذلك عن الأب المتوفي، والذي ظل خيالًا حتى في مشاهد العودة بالزمن، كان أشبه بالخيال داخل الأحداث، رغم وجوده بأغلبها. كما نرى تلك الرمزية تتجلى بوضوح في ثانِ مشاهد الفيلم، والذي يقع في الزمن الحالي، حيث يعمل “لي” سباكًا، ويدور حديث بينه وبين صاحب المنزل العجوز حول الصنبور الذي يقطر ماءً دون أن نراه مع سماع صوت راديو أيضًا دون أن نراه، مع تركيز الكاميرا على الشخصين وحوارهما ونظراتهما للصنبور في إيحاء من المخرج بأن هذا الفيلم لا يُناقش الأحداث، ولكن يهتم بأثرها على الأشخاص. ويظهر ذلك طوال أحداث الفيلم في تأثير الأحداث والشخصيات الغائبة على أبطالنا، ومدى تأثرهم بها، رغم محاولتهم إخفائها بداخلهم.

الفيلم قد يُمثل تجربة صعبة للكثيرين، وذلك لم يكن مصادفة، وإنما كان عن قصد من صانع الفيلم كينيث لونرجان، إذ قصد أن يجعلك تشعر بمعاناة أبطاله بأقسى شكل ممكن، وكان ذلك عن طريق إخفاء كثير من التفاصيل، التي دفعك لمحاولة معايشتها بعقلك، لينتهي بك الأمر متوحدًا مع الأبطال في معاناتهم لتشعر بمشاعرهم القاسية رغمًا عنك.